التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُعَدُّ حصار شقودرة عام 1478م من أهم الأحداث في تاريخ الدولة العثمانية، وأيضًا في تاريخ البندقية وأوروبا، لـما ترتب عليه من نتائج وآثار.
يُعَدُّ حِصار شقودرة عام 1478م من أهمِّ الأحداث في تاريخ الدولة العثمانية، ومن أهمِّ الأحداث كذلك في تاريخ ألبانيا، وأيضًا في تاريخ البندقية وأوروبا، لِمَا ترتَّب عليه من نتائج وآثار، ولهذا اهتمَّت المصادر التاريخيَّة الألبانيَّة والبندقية والعثمانيَّة والأوروبية بهذا الحدث، وقد قام المؤرِّخ الأميركي ديڤيد هوسافلوك David Hosaflook بعملٍ كبيرٍ بخصوص هذا الحصار؛ حيث جمع معظم ما كُتِب عنه في المصادر الأصليَّة وترجمه إلى اللغة الإنجليزيَّة مع التحقيق والمراجعة وأصدره في كتاب واحد[1]، وهكذا توفَّرت معلوماتٌ كثيرةٌ مهمَّةٌ عن الحدث، وقد شمل كتابُهُ ترجمةً لكتاب القسِّ الألبانيِّ مارين بارليتي Marin Barleti «حِصار شقودرة»، وهذا القسُّ كان معاصرًا للحصار، بل كان من ضِمْن المقاتلين والمدافعين عن المدينة، وشمل أيضًا ترجمةً لكتاب «حرب شقودرة» لچورچ ميرولا George Merula، وهو مؤرِّخٌ إيطاليٌّ معاصرٌ للأحداث كان يعيش في البندقية، وكتابات لمارين بيتشكيمي Marin Beçikemi، وهو مؤرِّخٌ ألبانيٌّ معاصر للحدث، وكان من المحاصَرين في شقودرة، بالإضافة إلى ترجمة لعددٍ من المصادر التركيَّة الأصليَّة المعاصرة للحدث، أو التي كُتِبَت بعده بفترةٍ قصيرة، وذلك مثل أعمال طورسون Tursun، وعاشق باشا زاده Ashik Pasha-Zâde، وكيڤامي Kivami، وإدريس البدليسي Idris-I Bidlisi، وكمال باشا زاده Kemâl Pasha-Zâde، وهو بذلك يُقدِّم صورةً متوازنةً عن الحصار من المصادر المختلفة، وسوف نعتمد في وصفنا لهذا الحدث على هذه المصادر كلِّها، بالإضافة إلى بعض المصادر الأخرى من خارج هذا البحث القيِّم.
ذكر مارين بارليتي أنَّ أوَّل الفرق العثمانيَّة وصولًا كانت الفرقة البوسنويَّة بقيادة علي بك، أحد قادة البوسنة المعروفين آنذاك، وجاء بعده إِسكندر بك والي البوسنة نفسه، وكان عدد أفراد هذه الفرقة حوالي خمسة عشر ألف مقاتل، وكان وصولهم في 14 مايو 1478م[2]، وهذه هي الفرقة التي طلب منها الفاتح تأمين المكان لحين وصول الجيوش العثمانيَّة الرئيسة، وقد انتشرت الفرقة حول قلعة شقودرة الشهيرة انتظارًا لجيش الروملي، الذي كان أوَّل الجيوش العثمانيَّة تحرُّكًا من إسطنبول.
بعد ذلك بأيَّام وصل جيش الروملي بقيادة داود باشا، وكان معه آلاف الجمال المحمَّلة بالمؤن والذخيرة والمعادن اللازمة لتصنيع المقذوفات، وعلى الفور بدأ العمل الدءوب؛ إذ تجمَّع فريقٌ من الجيش حول القلعة لحصارها، بينما ذهب فريقٌ آخر لبناء بعض الجسور على نهري كير Kir وبونا Buna (هو نفسه نهر بويانا Bojana)، القريبين من القلعة لتسهيل حركة الجيوش حول المدينة، وذهب فريقٌ ثالثٌ لبناء عدَّة سفنٍ خشبيَّةٍ صغيرة للحركة في البحيرة القريبة (بحيرة شقودرة)، التي كانت تتحرَّك فيها بعض السفن الألبانيَّة الصغيرة للهجوم على الجيش العثماني في هجماتٍ خاطفةٍ بغية تخفيف الضغط على القلعة المحاصَرة، فكان العثمانيُّون يستخدمون هذه السفن التي صنعوها في مواجهة هذه الهجمات. أمَّا الباشا داود نفسه فقد صعد أحد التلال العالية شمال القلعة، الذي عُرِف باسمه بعد ذلك، وهو «تل الباشا» «Pasha's Hill» (الآن اسمه «Tepe»)، وفوق هذا التل قرَّر داود باشا بناء برجٍ خشبيٍّ مرتفعٍ في مواجهة القلعة لتُوضع فوقه المدافع التي يُمكن أن تقصف القلعة[3].كانت القلعة حصينة إلى درجةٍ فوق العادة (صورة رقم 8).
ويذكر المؤرِّخ التركي كيڤامي أنَّه حتى هذه اللحظة لم يتمكَّن عدوٌّ من أعداء المدينة أن يُسْقِط هذه القلعة في كلِّ تاريخها[4]، مع العلم أنَّ القلعة بُنيت قبل الميلاد بأكثر من مائتي سنة[5]؛ أي أنَّه قد مرَّ عليها حتى لحظة حصار العثمانيِّين لها حوالي ستَّة عشر قرنًا من الزمان! (والقلعة ما تزال موجودةً إلى الآن!).
ومع شدَّة حصانتها إلَّا أنَّ البنادقة أضافوا إليها تحصينات كثيرة حديثة ممَّا زاد من مناعتها فوق مناعتها الأصليَّة، ومن هذه التحصينات أنَّهم أضافوا سورًا خارجيًّا ليُصبح هو السور الرئيس للقلعة، بينما يعمل سورها الأصلي كسورٍ داخليٍّ يزيد من الحصانة[6]، وهكذا صار أمر اقتحامها من مستحيلات هذا الزمن!
يصف طورسون -المؤرِّخ التركي المعاصر للفاتح- هذه القلعة فيقول: «بُنيت هذه القلعة فوق جبلٍ صخريٍّ قويٍّ على مساحةٍ شاسعة، وهي محاطةٌ بمنحدراتٍ من كلِّ الاتجاهات، ويُعَدُّ تسلُّق جدرانها التي تبلغ عنان السماء، أمرًا مستحيلًا»[7]!
ومع أنَّ كلَّ جهات القلعة شديدة الانحدار، فإنَّ أقلَّها انحدارًا هي الناحية الشماليَّة[8]، وهذا يُفسِّر اختيار داود باشا للتلِّ الذي يقع شمال المدينة لكي يضع عليه البرج الذي ستُقصَف المدينة منه، وذلك حتى يفتح بعض الثغرات التي يُمكن للجنود أن يدخلوا منها في حال نجاح تسلُّقهم للمنحدر الصعب.
وكانت القلعة الكبيرة مزوَّدةً بنظام صهاريج خاصَّة أضافتها البنادقة عام 1458م؛ لتجميع مياه الأمطار بكفاءةٍ عاليةٍ للغاية[9][10]، كما تحتفظ القلعة بمخازن كبيرة للحبوب، وبها زراعات خاصَّة بها، ممَّا يجعل الطعام متوفِّرًا إلى حدٍّ كبيرٍ طوال فترات الحصار الطويلة[11].
بقي أن نعرف أنَّ هذه القلعة الشامخة كان اسمها قلعة روزافا «Rozafa castle»، ويذكر عالم الآثار الألباني نيريتان سيكا Neritan Ceka أنَّ هذا الاسم مأخوذ من اسم المدينة السوريَّة الرّصافة Resafa، حيث كان ينتمي إليها اثنان من القدِّيسين السوريِّين الشهداء: سيرچيوس Sergius، وباكوس Bacchus، اللَّذَين عاشا في ألبانيا فترةً من حياتهما، وقد أطلق أهل شقودرة اسم مدينتهما على القلعة عام 400م بعد استشهادهما[12]، وهذا يُعطيها بُعدًا دينيًّا تحميسيًّا لأهل المدينة للدِّفاع عنها، وهذا البعد الديني واضحٌ بشكلٍ كبيرٍ في كتابات مارين بارليتي.
هذه هي القلعة بتاريخها المعماري، والعسكري، والديني، التي دوَّخت ملوك العالم قبل ذلك!
كان عدد المقاتلين في القلعة حوالي ألف وستمائة مقاتلٍ فقط[13]، ومع ذلك فحصانة القلعة تُعطي الفرصة للعدد القليل أن يُدافع عنها، ولفتراتٍ طويلة؛ لأنَّ المناعة تكاد تكون طبيعيَّة ومعماريَّة أكثر منها معتمدة على الطاقات البشريَّة.
لم يقم جيش الروملي بعمليَّاتٍ هجوميَّةٍ على القلعة انتظارًا لاكتمال بقيَّة الجيوش، ولكنَّه كان يُقاوم الهجمات التي كان يشنُّها بعض الألبان في صورة حرب العصابات على المعسكر العثماني[14].
وفي أوائل يونيو 1478م وصل الجيشان الثاني والثالث إلى وجهتيهما!
كان الجيش الثاني بقيادة مصطفى بك والي الأناضول، وكانت وجهته إلى مدينة شقودرة مثل الجيش الأوَّل، وقد وصل بأعداده الكبيرة ليلتحق بجيش الروملي ويستكملا سويًّا حصار المدينة[15].
أمَّا الجيش الثالث فكان بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه، وكان متوجِّهًا إلى المدينة العنيدة كرويه، وكأنَّ الفاتح قد اختار أن يتَّجه هو إلى هذه المدينة ليُعوِّض عدم نجاحه السابق في فتحها، أو لشعوره أنَّ مهمتها ستكون أيسر، ولهذا فمن الأفضل أن ينتهي منها أوَّلًا قبل التوجُّه إلى شقودرة، التي تُعَدُّ أحصن بكثيرٍ من كرويه.
عمومًا كانت حملة الفاتح رحمه الله إلى كرويه حملةً ناجحةً بكلِّ المقاييس؛ فالمدينة التي قاومت قبل ذلك ثلاث حملات همايونيَّة في عهدي مراد الثاني ومحمد الفاتح، سقطت هذه المرَّة في أيَّامٍ قليلة، ويرجع ذلك إلى حصارها الطويل جدًّا، الذي استمرَّ ثلاثة عشر شهرًا كاملًا؛ حيث بدأ في مايو 1477م، وها هي تفتح أبوابها للفاتح في يونيو 1478م[16].
كان فتحًا عظيمًا أثلج صدر الفاتح، ولكنَّه لم يأخذ أيَّ قسطٍ من الراحة؛ بل انطلق من فوره شمالًا ليلحق بالجيوش المحاصِرة لشقودرة.
وصل الفاتح إلى شقودرة في أوَّل يوليو 1478م[17] مصحوبًا بعددٍ كبيرٍ من الإنكشاريَّة، بل جاء معه معظم الجيش العثماني، لتجتمع بذلك معظم الطاقة العسكريَّة العثمانيَّة حول المدينة الحصينة شقودرة.
كم كان عدد الجنود العثمانيِّين الذين اجتمعوا في هذا الحصار العجيب؟!
يذكر مارين بارليتي أنَّ عدد الجنود العثمانيِّين في هذا الحصار كان ثلاثمائة وخمسين ألف مقاتلٍ عثماني[18]، ويُؤكِّد المؤرِّخ النمساويُّ الشهير، وصاحب أكبر موسوعةٍ عن التاريخ العثماني، ڤون هامر Von Hammer هذه المعلومة في موسوعته[19]، بينما يرى المؤرِّخ الألباني أليكس بودا Aleks Buda أنَّ هذا الرقم مبالغٌ فيه كعادة المؤرِّخين في المبالغة في هذا الزمن[20].
والحقُّ أنَّني أرى أنَّ هذا الرقم ليس مبالغًا فيه بدرجةٍ كبيرة، بمعنى أنَّ العدد الحقيقي للجيش العثماني يقترب من هذا الرقم، إنْ لم يكن صحيحًا تمامًا، والذي يدعوني لهذه القناعة عدَّة أمور، منها ما يلي:
أوَّلًا: رأينا في هذا الحصار جيشي الروملي والأناضول معًا، وهما قوَّتان منفصلتان تقريبًا، لكلِّ واحدٍ منهما عمليَّاته العسكريَّة الخاصَّة به، ومعنى اجتماعهما في هذا الحصار أنَّ جيش الروملي وحده لا يكفي لأداء هذه المهمَّة، ولا شَكَّ أنَّ جيش الروملي يزيد على مائة وخمسين ألف مقاتل؛ لأنَّنا رأيناه في معارك كثيرة يقترب من هذا الرقم، وهذا شيءٌ طبيعيٌّ بالنسبة إلى جيشٍ يحمي حدودًا في ألبانيا، والبوسنة وصربيا، وبلغاريا، واليونان، ومقدونيا، بالإضافة إلى الجزر الكثيرة في بحر إيجة، فهذا هو جيش الروملي، ولن يختلف جيش الأناضول كثيرًا عنه في الحجم، وعمليَّاته العسكريَّة تُؤيِّد ذلك، ويكفي مراجعة معركة الجيش مع السلطان أوزون حسن عام 1473م لنعرف حجم هذا الجيش، فليس مستغربًا في الحقيقة أن يكون جيش الدولة العثمانيَّة بهذا الحجم.
ثانيًا: كان الفاتح يعلم صعوبة المهمَّة، وقد نقل عاشق زاده حوارات السلطان الفاتح مع وزرائه بخصوص هذا الفتح[21]، وهو يعلم أنَّه مقبلٌ على عملٍ كبيرٍ وصعب، ولهذا من الطبيعي أن يعدَّ له هذه العدَّة الضخمة.
ثالثًا: تاريخ الصدام مع كرويه وشقودرة يؤُكِّد أنَّ الفاتح سيعدُّ قوَّةً لم يسبق له أنْ أرسل مثلها إلى هذا المكان؛ فكرويه قاومت الحصار قبل ذلك ثلاث مرَّات، وشقودرة قاومت الحصار عام 1474م، ولا شَكَّ أنَّ الفاتح لا يُريد تكرار هذه التجارب السابقة.
رابعًا: تاريخ تمرد ألبانيا يمتدُّ إلى خمسٍ وثلاثين سنةً متَّصلةً حتى الآن (منذ عام 1443م)، وإعادة الإقليم إلى سيطرة الدولة العثمانية هدفٌ كبيرٌ لم ينجح السلطان مراد الثاني ولا السلطان الفاتح في تحقيقه حتى هذه اللحظة، ومِنْ ثَمَّ يُمكن توقُّع تجهيز مثل هذا الجيش لتحقيق المهمَّة.
خامسًا: واضحٌ من مراجعة قصَّة الفاتح في العام الأخير أنَّه يُرَكِّز كلَّ جهوده لغلق ملفِّ البندقية وأعوانها تمامًا، وفي أقرب وقتٍ ممكن، ولهذا من المناسب جدًّا أن يجمع الفاتح كلَّ طاقاته لتحقيق هذه المهمَّة ليتفرَّغ بعدها لأعدائه الكُثُر في الشمال، والغرب، والجنوب كذلك.
سادسًا: كان من الواضح أنَّ ألبانيا هي خطوةٌ في الطريق إلى إيطاليا بشكلٍ عامٍّ، وروما بشكلٍ خاص، ولهذا من المتوقَّع أن يكون الجيش العثماني بهذه الكثافة، وذلك استعدادًا للمهمَّة الأكبر وهي فتح إيطاليا.
سابعًا: سنرى في وصف حِصار شقودرة أنَّ العثمانيِّين سيهجمون في إحدى حملاتهم بمائة ألف مقاتل دفعةً واحدة، وهذه رواية عثمانيَّة رواها المؤرِّخ التركي المعاصر كيڤامي[22]، وليس من مصلحته المبالغة في الأرقام بالزيادة لأنَّ الحملة لم تنجح، وبدهيٌّ أنَّ الجيش لم يهجم بكامله في هذه الحملة؛ إنَّما كان بعضه يهجم، وبعضه يتمركز في مواقع المدافع القاذفة، وبعضه في حماية مداخل المدينة، وبعضه في حماية السلطان، وهكذا.
ثامنًا: سنرى أيضًا أنَّ الفاتح سيُخْرِج أثناء حصاره للقلعة فرقةً خاصَّةً للقيام بأعمالٍ فدائيَّةٍ في شمال شرق إيطاليا، وسيكون قوامها ثلاثين ألف مقاتل، فإذا كان السلطان لا يُمانع في إخراج مثل هذه الفرقة الكبيرة لأعمالٍ بعيدة جدًّا عن أرض القتال في شقودرة، فمعنى هذا أنَّ القوَّة المتبقية في الحصار كبيرة للغاية، خاصَّةً أنَّ لها أعمالًا أخرى في المنطقة غير حِصار شقودرة، وأعني بها إسقاط عدَّة قلاع ومدن أخرى مهمَّة في منطقة أَلبانيا البُندقية.
تاسعًا: رأينا في فتح القسطنطينية أنَّ الجيش العثماني تجاوز مائة وخمسين ألف مقاتل، وكان هذا في عام (857هـ= 1453م)؛ أي منذ خمسٍ وعشرين سنةً كاملةً من هذه الأحداث، ومن المتوقَّع أنَّ خلال هذه الفترة زاد عدد الجيش إلى هذا الحجم، خاصَّةً بعد دخول الإمارات التركيَّة في الأناضول تحت سيطرة الدولة العثمانيَّة، وأيضًا بعد فتح البوسنة وإسلام عددٍ كبيرٍ من أهلها، وأيضًا دخول القرم في تبعيَّة الدولة، وكل هذه عوامل ترفع من عدد الجيش العثماني الكبير، فهذا الرقم إِذَنْ غير مستغرب في هذه المرحلة.
عاشرًا: لم تكن رواية مارين بارليتي هي الوحيدة التي ذكرت هذا الرقم الكبير؛ بل ذكر ذلك أيضًا المؤرِّخ الألباني مارين بيتشكيمي أنَّ الجيش العثماني كان أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل[23].
كلُّ هذه المؤيِّدات تُؤكِّد أنَّ الجيش العثماني كان عملاقًا في هذا الحصار، وليس بالضرورة أن يكون ثلاثمائة وخمسين ألف مقاتل، ولكنَّه في كلِّ الأحوال ليس بعيدًا عن هذا الرقم..
***
بدأت العمليَّات العسكريَّة فور وصول السلطان الفاتح إلى أرض شقودرة، وكان العثمانيُّون قد نصبوا أحد عشر مدفعًا ثقيلًا لقصف المدينة[24][25]، وهكذا بدأ القصف الكثيف للمدينة بعد أن رفض أهلها عرضًا قدَّمه الجيش العثماني بالتسليم مقابل الأمان[26]، وكان القصف شديدًا للغاية، وقد أحصى ڤون هامر عدد القذائف المطلقة على المدينة في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يوليو فوجد أنَّها ألفين وأربعمائة وإحدى عشر قذيفةً[27]، وكانت هذه القذائف مُرَكَّزة على الناحية الشماليَّة التي تتميَّز بأنَّها أقلُّ انحدارًا من النواحي الأخرى، وبذلك يُعطي فرصةً لثقب الأسوار في مكانٍ يُمكن للجنود بعد ذلك أن يتسلَّقوه ليدخلوا من خلال هذه الثقوب إلى القلعة[28].
بالإضافة إلى القصف المستمرِّ للقذائف المعتادة استخدم العثمانيُّون في هذا الحصار أسلحةً تُستخدم للمرَّة الأولى في العالم؛ وهي صواريخ حارقة، وأيضًا كرات قماشيَّة كبيرة تحتوي على موادٍّ ملتهبة، وشمع، وزيت، وكبريت، وهذه الكرات تطير إلى داخل القلعة، وتنفجر عند ملامستها للجدران[29][30].
لم يكن الفاتح قائدًا عاديًّا؛ إنَّما كان صاحب نظرةٍ عميقةٍ واعيةٍ تستطيع أن تُقدِّر الأمور بحجمها الصحيح، ولهذا فهو لم يغتر بالأعداد الكبيرة لجيشه، وبالتسليح القوي له، ولم يغتر كذلك بقلَّة المدافعين عن القلعة، بل داخله شعورٌ فيما يبدو أنَّ هذا الحصار قد لا يصل إلى نتيجته؛ وذلك للمناعة الرهيبة للقلعة، وقد هاله منظرها، مع أنَّه صاحب خبرةٍ عظيمة في حصار القلاع الكبيرة وإسقاطها، وقد نقل مارين بارليتي قولًا للفاتح عندما رأى القلعة قال فيه: «ما أروع العش الذي اختاره النسر لتربية صغاره»[31]! وسواءٌ قال الفاتح هذا القول أم لم يقله فإنَّ الواقع يُثبت أنَّ الفاتح كان منبهرًا بحصانة القلعة، وكذلك كان الوزراء والمقرَّبون له، وقد نقل المؤرِّخ التركي عاشق زاده أنَّ الفاتح -وهو في أدرنة- تعجَّب من كون الجيوش لا تستطيع الوصول إلى قلعة شقودرة، فأجابه الوزراء بأنَّ الجيش العثماني يستطيع الوصول إلى القلعة؛ لكنَّها شديدة الحصانة[32]، فليست القضيَّة هي الوصول إلى المكان ومحاصرته؛ ولكنَّ التحدِّي الكبير هو اقتحام هذا المكان.
نقول هذا الكلام لأنَّ الفاتح أخذ قرارًا مهمًّا في هذه الأيَّام الأولى التي شاهد فيها حصانة القلعة، بل لعلَّه أخذ هذا القرار قبل أن يبدأ في القصف أصلًا، وقبل أن يعرف إنْ كانت قذائفه ستُحدث أثرًا في الأسوار أم أنَّهم لن يتمكَّنوا من اقتحام القلعة. كان هذا القرار هو إرسال فرقةٍ عسكريَّةٍ كبيرة (ثلاثين ألف مقاتل) بقيادة والي البوسنة إِسكندر بك للإغارة الخاطفة على شمال شرق إيطاليا -أعني إقليم الفريولي وما حوله- بهدف الضغط السياسي والاقتصادي والأمني على البندقية، ليدفعها إلى تسليم شقودرة وبقيَّة الحصون دون قتال، والواقع أنَّ المصادر لا تُحدِّثنا عن التوقيت الذي أخذ فيه الفاتح هذا القرار، ولكنِّي أحسبه قد أخذه في أوَّل يوليو 1478م؛ أي في أوَّل أيَّام وصوله إلى شقودرة، والذي يدعوني إلى هذا الافتراض هو أنَّ هناك بعض المصادر كما سيتبيَّن ذكرتْ أنَّ هذه الحملة وصلت إلى الفريولي فعلًا قبل 26 يوليو «بعدَّة أيام»؛ أي في 20 أو 21 يوليو، فإذا علمنا أنَّ إِسكندر بك كان مع الفاتح حول شقودرة كما بيَّنَّا قبل ذلك؛ حيث كان إِسكندر بك من أوائل المحاصِرين للقلعة، وإذا علمنا كذلك أنَّ المسافة بين شقودرة وإقليم الفريولي في إيطاليا تزيد على سبعمائة كيلو متر، أدركنا أنَّ الفرقة العثمانيَّة كانت تحتاج على الأقل لثلاثة أسابيع للوصول إلى هذه النقطة البعيدة، ممَّا يعني أنَّ تحرُّكها من شقودرة كان يوم 1 يوليو أو 2 يوليو على الأكثر، ليكونوا في الفريولي في 20 أو 21 يوليو.
هذا التحليل يعني أنَّ الفاتح قرَّر الضغط على البندقية بوسيلةٍ أخرى غير حِصار شقودرة، ولو كان متيقِّنًا من إمكانيَّة فتح المدينة وإسقاط القلعة ما أرسل هذه الفرقة إلَّا بعد الاستفادة منها في إنجاح الحصار وفتح المدينة.
كانت الأيَّام الأولى في الحصار لا تشمل سوى عمليَّات القصف المتتالية على المدينة، ولم تكن هناك محاولات لتسلُّق المنحدرات التي تقود إلى الأسوار؛ لأنَّ الوصول إلى الأسوار وهي بحالتها الصحيحة لا يعني شيئًا؛ وذلك لاستحالة تسلُّقها لارتفاعها الشديد، وعليه فإنَّ الجيش العثماني كان منشغلًا تمامًا بمحاولة قصف الأسوار لتدمير جزءٍ منها، بينما كان الألبان والبنادقة يُصلحون الثقوب أوَّلًا بأوَّل، ممَّا يُصعِّب المهمَّة على العثمانيِّين[33]، خاصَّةً أنَّ الجدار كان ثنائيًّا، فكانت القذائف تُؤثِّر في السور الخارجي فقط.
بدأت الأسوار تتصدَّع نسبيًّا فقرَّر الفاتح القيام بحملةٍ شجاعةٍ لمحاولة تسلُّق المنحدرات والصعود إلى الأسوار لاختراق الثقوب التي تكوَّنت، وقد ذكر مارين بارليتي أنَّ المحاولات الهجوميَّة للعثمانيِّين كانت خمسة[34]، بينما يرى أليكس بودا أنَّهما كانتا محاولتين فقط[35]، والصواب أنَّ محاولات الزحف كانت خمسة كما ذكر مارين بارليتي؛ ولكنَّ أوَّل ثلاثةٍ منهم كانت محاولات يسيرة، بينما كانت أوَّل محاولةٍ كبيرةٍ مؤثِّرة هي المحاولة الرابعة، التي عَدَّها أليكس بودا المحاولة الأولى، وكانت في يوم 22 يوليو 1478م، ويدعم هذا أنَّه أطلق عليها المحاولة الشاملة (The all-out attack)، ممَّا يعني وجود محاولات قبلها؛ ولكنَّها لم تكن شاملةً كهذه.
والآن، في يوم 22 يوليو، حاول الجيش العثماني الجريء محاولةً خَطِرةً لاقتحام القلعة الحصينة، وأفضل شيءٍ أنْ نترك المؤرِّخ التركي كيڤامي يصف لنا الحدث، ومنه سنخرج بدلالات كثيرة تُوضِّح لنا طبيعة المعارك العثمانيَّة، ونوعيَّة الجنود المسلمين آنذاك، خاصَّةً في زمن الفاتح رحمه الله..
يقول كيڤامي: «في ذات صبح -وهو يوم 22 يوليو- قرَّر الجنود المسلمون القيام بمحاولة تسلل، ليروا كيف ستسير الأمور، وهل يُمكن لهذه القلعة أن تُفتح، على الفور نزل كلُّ الفرسان عن خيولهم، وتحوَّلوا جميعًا إلى مشاة (لاستحالة التسلُّق وهم على خيولهم). لبس الجميع الصدور الواقية، وحملوا دروعهم، وارتدوا خوذاتهم، وأخرجوا سيوفهم من غمادها؛ طاعةً لأمر السلطان غير آبهين بالموت، ورفع الجميع راياتهم، وقُرِعت طبولهم، ونُفِخت أبواقهم، واصطفُّوا مكوِّنين كتائب من كلِّ اتِّجاه، إيمانًا من الجنود أنَّ مهمَّتهم هي في سبيل الله، هجم الجميع على القلعة وهم يردِّدون: «الله.. الله..». كانت القذائف والقنابل والطلقات تتساقط كالمطر، وكانت رءوس الجنود تطير كالكرات، بينما كانت الأذرع تُقْطَع بقصف المجانيق. كانت القذائف الصخريَّة الضخمة ترتفع في كلِّ مكان، ومع ذلك كانت السيوف مشهرة لتخترق أكباد العدو، ولتشطر أجسادهم إلى نصفين، اندفع في لحظةٍ واحدةٍ مائةُ ألف رجلٍ نحو العدوِّ في حملةٍ صادقة؛ ولكنَّهم اكتشفوا أنَّه من المستحيل اختراق القلعة من خلال الثقوب التي في الجدران! على الرغم من جهودهم المثيرة للإعجاب لم يجد الجنود الطريق إلى النصر! سقط الكثير من الرجال الشجعان شهداء خلال الحملة وهم يرفضون الاستسلام. في النهاية أدرك الجيش الإسلامي أنَّه في وضعٍ خطرٍ للغاية، فانسحب، وعاد الجنود إلى أجنحتهم في حزن. أسعد هذا الوضع العدو، وتفطَّرت قلوب المسلمين بما في ذلك القلب المتميِّز للسلطان»[36]!
انتهى وصف كيڤامي للمحاولة الشاملة.. وياله من وصف!
إنَّه يحمل الكثير والكثير من الدلالات!
إنَّه يكشف لنا طرفًا من الصعوبات الكبيرة التي اعترضت الفتوحات العثمانيَّة في أوروبا..
ويصف الشجاعة منقطعة النظير التي كان عليها الجنود العثمانيُّون..
ويُوضِّح كمَّ التضحيَّات التي بُذِلت في سبيل تحقيق النصر..
ويُؤكِّد أنَّ هذا الجهد كلَّه كان في سبيل الله، وحبًّا في الإسلام..
ويُبرز أنَّ الفتوحات العظيمة لم تكن سعادةً فقط، بل امتزجت بآلام وأحزان كثيرة..
وأخيرًا يكشف لنا هذا الوصف المشاركة الوجدانيَّة والجسديَّة للسلطان الفاتح لجنوده الأبرار، وهكذا يكون الأمير الصادق الذي لا ينفصل عن جنده أبدًا؛ فهو معهم في حربهم وسلمهم، وهو مشاركٌ لهم في فرحهم وحزنهم..
هكذا انتهت حملة يوم 22 يوليو بخسائر عثمانيَّة جسيمة..
سقط من العثمانيين في هذه الهجمة اثنا عشر ألف مقاتل من قوَّات النخبة[37]!
ومع هذا لم يخضع الفاتح لهذا الوضع، ولم يستسلم له؛ إنَّما أمر في صباح اليوم التالي مباشرةً بإعداد العدَّة لحملةٍ أخرى بعد عدَّة أيام، وقال لهم -كما يُؤكِّد كيڤامي- أنَّه إذا أراد الله العظيم أن تُفْتَح القلعة فإنَّ ذلك سيتم[38].
استمرَّ قصف القلعة عدَّة أيَّامٍ متَّصلةٍ بلا انقطاع، وحدثت تصدُّعات كثيرة في الأسوار، ممَّا أغرى السلطان الفاتح أن يُصدِر أوامره بالقيام بالحملة الشاملة الثانية (وهي الخامسة في كلِّ المحاولات)، وكان ذلك في يوم 27 يوليو 1478م[39].
يقول كيڤامي: «انطلق الجيش الإسلامي كالموج الهادر من كلِّ جوانب القلعة»[40]. ولكي يتجنَّب الفاتح إصلاح الألبان والبنادقة للأسوار والبوابات بعد قصفها أمر أن تتزامن الهجمة العثمانيَّة الكبيرة مع إطلاق المدافع الأحد عشر على القلعة، وبذلك تسقط الأسوار في وقت وجود الجنود العثمانيِّين نفسه ممَّا يُتيح لهم فرصة اختراق الثقوب، ودخول المدينة[41].
هل حقَّق هذا الإجراء المراد؟!
للأسف لقد حدث العكس تمامًا! إذ إنَّ القذائف القويَّة لم تستهدف الأسوار فقط، بل وقعت كذلك على الجيش العثماني نفسه[42]، فحدثت الإصابات الحربيَّة التي يُطلِق عليها العسكريُّون: إصابات من نيران صديقة! وكان الضحايا العثمانيُّون أكثر من كلِّ حساب!
يقول كيڤامي: «في هذه الهجمة سقط كثيرٌ من المحاربين الجرحى على الأرض شهداء، ومرَّةً أخرى يختار اللهُ العظيم أن يكون هذا اليوم هو يوم سقوط الشهداء لهؤلاء الرجال الشجعان من الجيش الإسلامي، وهكذا اقتضت حكمة الله أن يُعطي الحزن للأصدقاء، والفرح للأعداء»[43]!
استمرَّت المحاولات طوال الليل، واستُكملت في اليوم الثاني -أي يوم 28 يوليو- ومع ذلك لم يتحقَّق نجاحٌ يُذْكَر[44]، وكان السلطان الفاتح يُراقب سير الأحداث من فوق تلِّ الباشا ليكشف ساحة المعركة كلَّها[45].
كانت النتيجة مفجعة!
كانت الخسائر العثمانيَّة كبيرة، والشهداء بالآلاف..
لم تكن الإصابات القاتلة تأتي من النيران الصديقة فقط؛ ولكن كان المقاتلون في داخل القلعة يُقاومون بضراوةٍ شديدة، ويصف المؤرِّخ التركي إدريس البدليسي الموقف فيقول: «كان الجنود العثمانيُّون يُقَابَلون بالقذائف الصخريَّة، وطلقات النار، والزيت المغلي»[46]!.
يذكر بابينجر أنَّ الجيش العثماني فقد ثلثه في هذه الهجمة[47]، ويبدو أنَّ هذه مبالغة كبيرة في الخسارة، خاصَّةً إذا اعتمدنا العدد الكبير للجيش العثماني، وقَبِلْنا أنَّه كان في حدود الثلاثمائة ألف، فمعنى هذا أنَّ الشهداء تجاوزوا مائة ألف، وأنا لا أعتقد بصحَّة هذا التقدير؛ لكون الجيش العثماني أكمل عمليَّاته العسكريَّة بشكلٍ طبيعي، وسنرى عدَّة فتوحات بعد هذه المعركة، كما أنَّ رقمًا كهذا سيلفت أنظار المؤرِّخين الأتراك، وهو ما لم يحدث قط؛ حيث لم يذكر أيُّ مصدرٍ تركيٍّ هذه الأرقام أو أرقامًا قريبةً منها..
ومع ذلك فلا شَكَّ أنَّ الضحايا كانوا كثيرين للغاية، وكانت الرسالة التي وجَّهها المقاومون الألبان والبنادقة واضحةً وقويَّة، ولم يكن عند القائد الفاهم محمد الفاتح إلَّا قرارٌ واحدٌ إزاء هذه الكارثة العسكريَّة..
هذا القرار هو الانسحاب[48][49]!
بل وقف العمليَّات العسكريَّة مؤقَّتًا حتى يُبْحَث في الأمر من جديد..
عقد السلطان الفاتح في يوم 30 يوليو -بعد هذه الكارثة بثلاثة أيَّام- مجلسَ حربٍ مهمًّا في محيط مدينة شقودرة؛ ليُؤخذ القرار المناسب[50].
جاءت القرارات على النحو الآتي:
أولًا: وقف القصف لقلعة شقودرة، وإنهاء محاولات الهجوم المباشر عليها.
ثانيًا: الإبقاء على حاميةٍ عثمانيَّةٍ قويَّةٍ تُحيط بالمدينة بقيادة كديك أحمد باشا؛ وذلك لدفع المدينة إلى الاستسلام مستقبلًا مع القناعة أنَّ فتحها عسكريًّا أمرٌ في عداد غير الممكن.
ثالثًا: سحب الجيش العثماني الرئيس من حول المدينة، والتوجُّه إلى فتح القلاع المهمَّة في المنطقة؛ وهي قلاع زابلياك، ودِرشت، وليزهي.
رابعًا: منع سفن البندقية من عبور نهر بونا لكي يُثمر حِصار شقودرة عن شيء.
خامسًا: متابعة أخبار الفرقة العثمانيَّة العسكريَّة التي توجَّهت للفريولي؛ وذلك لمحاولة الضغط على البندقية بأسلوبٍ غير مباشرٍ يدفعها إلى تسليم شقودرة.
كانت هذه القرارات تعني الاعتراف بعدم النجاح العسكري في مسألة شقودرة، وهو اعترافٌ مؤلمٌ للغاية؛ لكون السلطان الفاتح يعدُّ العدَّة لهذه العمليَّة منذ أكثر من سنةٍ كاملة، ولم يكن الوقت المبذول في العمليَّة هو الخسارة الوحيدة؛ بل كانت الخسائر في الأموال والأرواح أكبر، ووصل الجيش العثماني إلى النتيجة نفسها التي حدثت في حصاره لشقودرة عام 1474م!
هكذا حَزِن الأصدقاء، وسعد الأعداء، كما يقول كيڤامي[51]!
ومع ذلك فليست الحياة آلامًا فقط، أو أفراحًا وحدها! إنَّما هي خليطٌ من هذا وذاك، وأحيانًا من رَحِم المعاناة تُولَد الأفراح، وفي أرض الألم تنبت السعادة! هكذا!
هذا ما حدث مع السلطان الفاتح في هذه الأيَّام!
في ظلِّ هذه الأزمة النفسيَّة الكبيرة التي تعرَّض لها السلطان وجيشه الكبير في شهر يوليو 1478م جاءت الأخبار في الشهر التالي مباشرة -أغسطس 1478م- بعدَّة نجاحات أثلجت صدور المسلمين، وأعطت الحملة شكل النجاح الرائع حتى مع الفشل في فتح شقودرة.
وأوَّل هذه الأخبار السعيدة جاء من شمال شرق إيطاليا، عندما عَلِم الفاتح بما فعله والي البوسنة إِسكندر بك في حملته الجريئة في عمق أراضي العدو..
ماذا حدث في هذه الحملة؟!
كانت الحملة مكوَّنة من ثلاثين ألف فارس، وهو رقمٌ كبيرٌ للغاية، ولن يتحرَّك بصورةٍ خفيَّة؛ بل سيُشاهده الجميع، وستصل أخباره حتمًا إلى البندقية، وإلى البلاد التي ستخترقها الحملة، وأهمها المجر، ومع ذلك لم يكن هناك شيءٌ يُعطِّل الحملة عن وجهتها، وجاء وصف خطِّ سير الحملة على النحو التالي[52] (خريطة رقم 14):
اخترقت الحملة دولة كرواتيا (التابعة للمجر) من جنوبها إلى شمالها، ثم اخترقت دولة سلوڤينيا (التابعة لإمبراطوريَّة النمسا) من شرقها إلى غربها، فعبرت أقاليم ستيريا Styria، ثم كارينثيا Carinthia، ثم كارنيولا Carniola، وأخيرًا اجتاحت نهر إيسونزو Isonzo لتدخل إقليم الفريولي Friuli التابع للبندقيَّة، كلُّ هذا دون أدنى مقاومة، بل أكثر من هذا؛ فإنَّه عند دخول الفرقة العثمانيَّة إلى أرض البندقية لم تجرؤ الحاميات العسكريَّة الموجودة في شرق الفريولي على الخروج لملاقاتها؛ ولكن فضَّلت البقاء مشلولةً داخل قلاعها تاركة الفرصة للعثمانيِّين للتوغُّل في الإقليم الإيطالي!
فضَّلت الحملة العثمانيَّة هذه المرَّة أن تجعل مسرح عمليَّاتها شمالًا في منطقة الشمال الإيطالي وجنوب النمسا بدلًا من التوغُّل غربًا إلى مدينة البندقية، وعليه فقد قامت الحملة بإحداث خسائر جسيمة في وادي القنال Val Canal الواقع في جبال الألب، ووصلت في يوم 28 يوليو إلى مدينة تارڤيزيو Tarvisio، وهذه المدينة تقع على أقصى نقطة حدوديَّة في شمال شرق إيطاليا.
يُمكن أن يكون الهدف من تغيير مسرح العمليَّات عن العمليَّة السابقة التي تمَّت في عام 1477م متعدِّدًا؛ فهو أوَّلًا سيُفاجئ الإيطاليِّين؛ لأنَّهم عندما علموا بتحرُّك الفرقة العثمانيَّة توقَّعوا أن يكون مسارها مثل مسار الحملة السابقة؛ أي إلى البندقية، فلعلَّهم وضعوا كمائن في الطريق يُمكن أن تُسبِّب أزمةً للجيش العثماني، وثانيًا فإنَّ إحداث خسائر في مناطق جديدة سيُؤدِّي إلى ارتفاع نطاق السخط الشعبي العام على حكومة البندقية، فبالتالي يكون الضغط عليها أكبر، وثالثًا فإنَّ هذا المسرح الجديد سيجعل الضغط على إمبراطوريَّة النمسا أيضًا وليس على البندقية فقط، وهي رسالةٌ من العثمانيِّين إلى الإمبراطور النمساوي أنَّهم قادرون على الوصول لأراضيه، وتحميله خسائر جسيمة إنْ أرادوا، فتكون الرسالة مثل الردع لهذه الإمبراطوريَّة الكبيرة التي لا تفهم إلَّا لغة القوَّة.
يدعم هذا الهدف الأخير -أعني هدف إرهاب إمبراطورية النمسا- أنَّ الفرقة العثمانيَّة الجريئة لم تكتفِ بالوصول إلى مدينة تارڤيزيو الإيطاليَّة، بل عبرت فعلًا الحدود، ودخلت إلى الإمبراطوريَّة النمساويَّة ذاتها، وواصلت توغُّلها حتى دخلت مدينة فريساش Friesach (على بُعد ثمانين كيلو مترًا شمال شرق تارڤيزيو)، بل عادت جنوبًا من طريقٍ آخر، إبرازًا لمقدرة الفرقة على التحرُّك بحرِّيَّةٍ في أماكن جغرافيَّة صعبة ومتعدِّدة؛ فقد عادت الفرقة عن طريق مدينة زولفيلد Zollfeld، ثم مدينة ورثر سي Worther See، قبل أن تخترق الحدود النمساويَّة السلوڤينيَّة من الناحية الشرقيَّة فتدخل في إقليم ستيريا الشرقي في سلوڤينيا، وتمرُّ بمدينة سيلي Celje، ثم تُكمل طريقها جنوبًا لتخترق كرواتيا كلَّها، وتصل في النهاية سالمةً إلى البوسنة!
وزيادةً في الإبهار نُشير إلى أنَّ هذه الحملة لم تكن مجرَّد مرورٍ عابرٍ في هذه النقاط؛ بل كانت حركة هادئة متأنِّية استغرقت عدَّة أسابيع وليست عدَّة أيَّام، فكانت عرضًا عسكريًّا مطمئنًا يُبرز القوة، ولا يُظهر أيَّ لونٍ من التردُّد أو الخوف.
وإنَّني أودُّ أن أنقل هنا حرفيًّا ما قاله المؤرِّخ الألماني الشهير بابينجر تعليقًا على هذه الحملة العجيبة، وهو يُبرز انبهاره من إمكانات العثمانيِّين العسكريَّة والاستخباراتيَّة: «إنَّ المرء ليقف مشدوهًا أمام معرفة الغزاة العثمانيِّين للبلاد والسكَّان في كلِّ حملاتهم العسكريَّة تقريبًا، وتشهد التسجيلات النمساويَّة التاريخيَّة كيف صعد العثمانيُّون بخيولهم أصعب المنحدرات في ممرِّ لويبل Loible Pass في جبال الألب في منطقة كارينثيا، وإنَّ شبكة الجواسيس العثمانيَّة -والكلام لبابينجر- امتدَّت تقريبًا إلى قلب ألمانيا! وكانوا جريئين بدرجةٍ ملحوظة، وكان عملهم فعَّالًا للغاية، وليس هناك حدثٌ في البلاد الواقعة على حدود الإمبراطوريَّة العثمانيَّة هرب من معرفة الباب العالي العثماني! لا يجتمع مجلس شيوخ (Diet) على الأرض الألمانيَّة (النمساويَّة) أو المجريَّة دون أن يُرسِل عملاء الدولة العثمانيَّة تقريرًا مفصَّلًا عنه إلى إسطنبول»! انتهى كلام بابينجر[53]!
والحقُّ أنَّني أشعر بالفخر الشديد لكون هذه الحِرَفيَّة العالية التي أبهرت الألمان والنمساويِّين -وهم أعداء العثمانيِّين آنذاك- تنبع من دولةٍ إسلاميَّةٍ عظيمة مثل الدولة العثمانيَّة، ويزداد فخري بهذه الدولة الكبيرة عندما أتذكر أنَّ كلَّ ما ذكرناه في الصفحات السابقة هو أحداثٌ على جبهةٍ واحدةٍ فقط من جبهات قتالها، وهي جبهة القتال مع جمهوريَّة البندقية، فإذا تذكَّرنا الأعداء العشرين الذين أحصيناهم، ووجودهم على حدود الدولة العثمانيَّة من كلِّ جانب، أدركنا أنَّنا نتحدَّث عن كيانٍ عظيمٍ باهرٍ لا يُمكن حصر أمجاده بين دفَّتي كتابٍ محدود؛ إنَّما يحتاج هذا الكيان لموسوعات لإبراز حقيقة مجده وعظمته!
هذه كانت حملة الفريولي الثانية التي استغرقت أواخر شهر يوليو، وكامل شهر أغسطس من عام 1478م.
وماذا فعل الجيش العثماني الرئيس بقيادة السلطان الفاتح في شمال ألبانيا بعد عجزه عن إسقاط المدينة الحصينة شقودرة؟!
ذكرنا أنَّ الفاتح قرَّر الإبقاء على فرقةٍ قويَّةٍ لاستكمال حِصار شقودرة، بينما تحرَّك بالجيش الرئيس شمالًا لفتح عدَّة قلاعٍ مهمَّةٍ في المنطقة (خريطة رقم 15).
كانت أولى المدن التي تَوَجَّه إليها العثمانيُّون هي مدينة زابلياك Zabljac[54]، على بعد حوالي ستين كيلو مترًا شمال شقودرة، وهي تقع على الساحل الشمالي لبحيرة شقودرة، وكانت عاصمة لإمارة زيتا، ومع أنَّ العثمانيِّين كانوا قد أسقطوها في عام 1477م، فإنَّ أمير زيتا «إيڤان كرنويڤيتش» استعادها في خِضَمِّ انشغال العثمانيِّين بمسألة شقودرة، وقبلها كرويه[55]، خاصَّةً أنَّ هذا الأمير كان قد هاجم المعسكر العثماني أثناء حصاره لشقودرة[56]، ممَّا يستوجب ردَّ فعلٍ عثمانيٍّ سريعٍ قبل أن تتكرَّر مثل هذه المحاولات، وبالإضافة إلى ما سبق فإنَّ هذه القلعة تُسيطر على بحيرة شقودرة المهمَّة استراتيجيًّا؛ حيث إنَّها أكبر بحيرات البلقان، وهي مربوطةٌ بالبحر الأدرياتيكي عبر نهر بويانا، كما أنَّها ترتبط ببحيرة أوهريد عبر نهر درين Drin[57]، وهذا يجعل الملاحة العسكريَّة فيها مهمَّةً للغاية، كما يُضيف المؤرِّخ التركي طورسون بُعْدًا اقتصاديًّا للبحيرة؛ فيذكر أنَّها تُعَدُّ مثل الأخ الأصغر للبحر الأسود، حيث تُنتج أسماكًا بقيمة أربعين ألفَ عملةٍ ذهبيَّةٍ سنويًّا[58]!
كانت الحملة الموجَّهة لهذه القلعة المهمَّة بقيادة والي الروملي داود باشا، وقد توجَّه إليها بجيشٍ كبيرٍ ضمَّ بعض الفرق من جيشه، بالإضافة إلى فرقٍ من جيش الأناضول[59]، وكان أمير زيتا إيڤان كرنويڤيتش قد ترك المدينة فور علمه بقدوم الجيش العثماني، وتوجَّه إلى مدينة أوبود Obod (الآن مدينة رييكا كرنويڤيكا Rijeka Crnojevića في جمهوريَّة الجبل الأسود)، التي اتَّخذها عاصمةً له بعد ذلك[60]، ولا شَكَّ أنَّ هذا الفرار أضعف من همَّة جيشه هناك، ممَّا سهَّل المهمَّة على الجيش العثماني.
حاصر الجيش العثماني المدينة، ونصب حولها المدافع، وكما يشرح المؤرِّخ التركي كيڤامي فإنَّ المدافع العثمانيَّة بدأت في إطلاق قذائف بحجم ثمرة البطيخ داخل القلعة بدلًا من محاولة هدم الأسوار؛ وذلك لدفع سكَّانها إلى التسليم المباشر دون قتال، وقد أثمرت الخطَّة نجاحًا كبيرًا، خاصَّةً أنَّ معنويَّات السكان كانت منخفضة لهرب أميرهم قبل ذلك؛ ومِنْ ثَمَّ طلبوا الأمان لأرواحهم وأموالهم في مقابل تسليم مفاتيح القلعة، وبالفعل تَسَلَّم العثمانيُّون القلعة، وطار الخبر بسرعةٍ إلى السلطان الفاتح، فكانت سعادةً كبيرةً لقلبه، وقلوب الجيش معه، بعد الأزمة الكبيرة التي عانوها أيَّام شقودرة[61].
بعد هذا الفتح توجَّهت الجيوش إلى قلعة درشت Drisht، وهي القلعة الثانية المهمَّة في المنطقة، وعلى الرغم من قربها من شقودرة (حوالي اثني عشر كيلو مترًا شرقًا) فإنَّ السلطان الفاتح فضَّل فتح قلعة زابلياك أوَّلًا للأسباب التي ذكرناها آنفًا، بالإضافة إلى صعوبة الأمر نسبيًّا في قلعة دِرشت؛ وذلك لوجودها في عمق الجبل في منطقة مرتفعة للغاية (ثمانمائة مترٍ فوق سطح البحر)، ويصف المؤرِّخ التركي طورسون موقع هذه القلعة فيقول: «تقع قلعة درشت في وسط حقول وجبال مليئة ببساتين الزيتون، ومكانها مرتفعٌ جدًّا وكأنَّ قلعتها تبلغ عنان السماء»[62]!
وكما توقَّع السلطان الفاتح، فإنَّ العمليَّة العسكريَّة في دِرشت كانت أصعب بكثير من مثيلتها في زابلياك؛ وذلك لارتفاع القلعة، وقناعة أهلها بإمكانيَّة الدِّفاع عنها، كما أنَّ قربها من شقودرة جعلتهم على علمٍ كاملٍ بما آلت إليه الأمور في قلعتها، ممَّا أعطاهم أملًا أن يكون دفاعهم عن القلعة ناجحًا كما كان في شقودرة.
كان مصطفى بك والي الأناضول هو المكلَّف بإسقاط دِرشت، وقد تمكَّن وهو في طريقه إليها من أسر ثمانمائة مقاتلٍ ألباني من أهلها كانوا قد هجموا على المعسكر العثماني قبل الوصول إلى المدينة، وهذا أدَّى إلى إضعاف الحامية المدافعة عن القلعة، ووصل مصطفى بك إلى القلعة، ونصب حولها المدافع الكثيرة، وقُصِفَت المدينة لمدَّة ستَّة عشر يومًا متواصلة[63].
في أثناء هذا القصف وصل إلى دِرشت داود باشا والي الروملي، الذي كان قد انتهى من فتح زابلياك، وبعدها وصل السلطان الفاتح إلى المدينة، ثم أخيرًا انهارت أسوار القلعة تحت القصف الكثيف، وكما يصف كيڤامي: رَفَعَت كلُّ الكتائب العثمانيَّة المحيطة بالقلعة رايتها الإسلاميَّة المحمولة على أعمدةٍ ذهبيَّة، وشهرت سيوفها، وانطلقت في هجمةٍ واحدةٍ على القلعة تحت وابلٍ من القذائف الحجريَّة، والطلقات الناريَّة، وصدى صوت الجنود وهم يُردِّدون: «الله.. الله..» يملأ المكان، وما هي إلَّا لحظات واقتُحِمت القلعة، ودارت موقعةٌ كبيرةٌ قُتِل فيها كلُّ المدافعين عن القلعة، ولأنَّ القلعة سقطت عنوة، ولم تُعلن الاستسلام، أو تطلب الأمان، فإنَّ كلَّ ثروتها اعُدَّت غنيمةً للجيش العثماني، وكانت هذه الغنائم وافرةً كما يصف كيڤامي[64].
كان هذا السقوط لقلعة دِرشت في الأوَّل من سبتمبر عام 1478م[65][66]؛ أي بعد شهرٍ تقريبًا من قرار ترك الجيش العثماني الرئيس لشقودرة.
وفورًا، وبعد سقوط دِرشت، توجَّهت الجيوش كلُّها إلى مدينة ليزهي Lezhë المهمَّة، فهذه هي القلعة الثالثة الرئيسة في المنطقة بعد قلعتي زابلياك ودِرشت، بالإضافة بالطبع إلى أهمِّهم وهي قلعة شقودرة، وكانت مدينة ليزهي تقع على بعد حوالي ثلاثين كيلو مترًا جنوب شقودرة، وهي مدينةٌ ساحليَّةٌ على البحر الأدرياتيكي، وقلعتها من القلاع المهمَّة التي تُسيطر على الميناء البحري، الذي يُعدُّ من أهمِّ مواني الأدرياتيكي آنذاك، وبالإضافة إلى ذلك فهي تقع على نهر درين Drin، الذي يصل الأدرياتيكي بشقودرة، وهو نهرٌ واسعٌ كالبحر كما يصف طورسون[67]، وهذا يُتيح للسفن الحربيَّة الكبيرة أنْ تنتقل عبره إلى شقودرة، ولهذا كانت السيطرة على المدينة أمرًا مهمًّا جدًّا لاستكمال حِصار شقودرة؛ وذلك بمنع سفن البندقية من الوصول إليها عبر هذا النهر.
ويبدو أنَّ خبر سقوط القلعتين -زابلياك ودِرشت- كان قد وصل إلى مدينة ليزهي، التي يُدافع عنها جيشٌ من البنادقة أساسًا، مع قليلٍ من الألبان[68]، وقد آثر هذا الجيش الانسحاب بكلِّ شيء، وترك المدينة خالية، خاصَّةً بعد أن سمعوا أنَّ معظم الجيش العثماني يتَّجه إليهم، وهكذا امتلك العثمانيُّون المدينة دون قتال، ومع ذلك فقد لحقت فرقةٌ من الجيش العثماني بالحامية البندقية وهي في طريقها للهرب عبر الأدرياتيكي، وقتلت عددًا كبيرًا منهم، ويُسهب المؤرِّخ إدريس البدليسي في وصف الغنائم التي حصل عليها الجيش العثماني من هذه السفن البندقية[69].
هكذا سقطت القلاع الثلاث، وانتشر الجيش العثماني في كامل ألبانيا، ليُحْكِم السيطرة عليها حيث لم يتبقَّ أيُّ جزءٍ منها، باستثناء شقودرة، خارج الحكم العثماني[70].
كان الشغل الشاغل للفاتح في هذه اللحظة أن يمنع قوَّات البندقية من الوصول إلى شقودرة بأيِّ وسيلة؛ ولذلك فقد أمر الجيشين الروملي والأناضولي ببناء برجين محصَّنين كبيرين على جانبي نهر بويانا قبيل دخوله إلى مدينة شقودرة؛ وذلك لقصف أيِّ سفينةٍ عسكريَّةٍ تُحاول الوصول إلى القلعة، ويصف طورسون أنَّ كلَّ جيش كان مكلَّفًا ببناء برجٍ على ناحيةٍ من النهر، فتسابق الفريقان في البناء، وواصلوا الليل بالنهار، فلم تكن هناك لحظات راحةٍ قط، وهكذا بُنِي البرجان في اثني عشر يومًا فقط، ووُضعت المدافع في هذه الأبراج، وزُوِّدت بذخيرةٍ كافية، ووُضعت تحت إمرة والي المنطقة؛ وذلك استعدادًا لرحيل الجيش الرئيس عن ألبانيا[71].
ومن المعلومات الطريفة بخصوص بناء هذين البرجين أنَّ أرشيف توب كابي في إسطنبول يحتفظ بوثيقة عبارة عن رسالةٍ وجَّهها شخصٌ يُدْعَى إبراهيم في وقتٍ بين (1474م و1478م) إلى السلطان محمد الفاتح يُخبره أنَّ الطريقة الوحيدة لفتح شقودرة هي بناء مثل هذين البرجين اللذين يمنعان المدد والعون للقلعة، أمَّا الفتح العسكري فمستحيل! هذه الوثيقة موجودة في متحف توب كابي بإسطنبول تحت رقم 6379[72]، وصدق إبراهيم!
وهكذا، وبعد أربعة شهورٍ تقريبًا من وجود الجيش العثماني في ألبانيا، جاء وقت الرحيل، ومع أنَّ السلطان الفاتح كان حزينًا لعدم قدرته على إسقاط القلعة الحصينة شقودرة، فإنَّ النتائج بشكلٍ عامٍّ كانت مُرْضِيةً جدًّا؛ حيث تحقَّقت نجاحاتٌ كبيرة، جعلت من المتوقَّع أن تُعلن البندقية استسلامها قريبًا..
لقد كانت نتائج الحملة في الواقع عظيمة، فبعد هذه الجهود الكثيرة والمضنية تحقَّقت عدَّة أمور إيجابيَّة أضافت الكثير للدولة العثمانيَّة، ويُمكن ملاحظة بعض هذه الأمور على النحو التالي:
أوَّلًا: فُتِحَت ألبانيا بكاملها تقريبًا باستثناء قلعة شقودرة، ويُمكن اعتبار أنَّ التمرد الألباني على الدولة العثمانيَّة قد انتهى تقريبًا، وهذا بعد خمسٍ وثلاثين سنةً كاملةً من المعاناة؛ فقد بدأ هذا التمرُّد عام 1443م، حتى القلعة الوحيدة الباقية في تمرُّدها أُضْعِفَت تمامًا، فعدد الحامية التي تدافع عنها انخفض إلى أربعمائةٍ وخمسين مقاتلٍ فقط بعد أن كانوا ألفًا وستمائة[73]، وكان يُمكن للعثمانيِّين أن يُكملوا القصف حتى ينتهوا منهم لولا أنَّ الخسائر العثمانيَّة كانت جسيمة، ممَّا دفع السلطان الفاتح إلى العدول عن الحلِّ العسكري، ومع ذلك فحصار القلعة ما زال مستمرًّا، والمدد ممنوعٌ عنها بفعل البرجين على نهر بويانا، والسيطرة على مدخل نهر درين عند مدينة ليزهي، فسقوطها إِذَنْ متوقَّعٌ في أيِّ لحظة.
ثانيًا: أُنْهِكَت جمهوريَّة البندقية إلى أكبر درجة؛ فالخسارة العسكريَّة ضخمة، وقلاع أَلبانيا البُندقية سقطت كلُّها، ولم يتبقَّ إلَّا قلعةٌ واحدةٌ محاصَرة، وغزا العثمانيُّون معظم إمارة زيتا الحليفة، واضطر إيڤان كرنويڤيتش إلى تغيير عاصمته بعد سقوط زابلياك، ولا شَكَّ أنَّ الأيَّام القادمة قد تحمل سقوط الإمارة بالكامل، وفوق هذا، وأهمُّ من كلِّ هذا، هو أنَّ جرأة العثمانيِّين في غزو الفريولي كانت لافتةً للنظر، والخسارة البندقية لم تقف عند الحدِّ العسكري؛ بل تجاوزت ذلك إلى خسارةٍ اقتصاديَّةٍ كبيرةٍ جدًّا، وهذا أمرٌ مقلقٌ للغاية في هذه الجمهوريَّة؛ لأنَّها تعتمد على الاقتصاد في استمرار وجودها، والمال عصب حياتها، خاصَّةً أنَّ سكَّانها قليلون، وهي تعتمد على المرتزقة الذين يتقاضون أجورًا باهظةً في سبيل استمرار الحفاظ على ممتلكات الجمهوريَّة في سواحل الأدرياتيكي والبحر المتوسط وبحر إيجة، ويُضاف إلى الخسارتين العسكريَّة والاقتصاديَّة خسارةٌ سياسيَّةٌ كبيرة؛ حيث فقدت الجمهوريَّة مكانتها المرموقة في أوروبا، وبدا هذا واضحًا في فتور أعوانها عن مساعدتها على أزمتها، وكان أبرزهم في هذا الوقت ميلانو وفلورنسا، وقد وقفتا ساكنتين لم تُساعدا بشيء[74]، وهكذا فعل ملك المجر أيضًا[75]، فهذه خسارةٌ غير مسبوقةٍ في تاريخ البندقية، ولم يتوقَّف الأمر على هذه الخسائر المتعدِّدة في المجالات العسكريَّة، والاقتصاديَّة، والسياسيَّة، بل تعدَّى ذلك إلى خسارةٍ على المستوى الداخلي في أبناء الجمهوريَّة ذاتها؛ فالسخط الشعبي بلغ أقصى مدًى له، نتيجة الضغوط الرهيبة التي وُضِعت على الشعب نتيجة تهديد أمنه واقتصاده، فلعلَّه لأوَّل مرَّةٍ تُهدَّد المدينة الأم البندقية بحملاتٍ عسكريَّةٍ من هذا النوع، وقد تزامنت هذه الأحداث مع الولاية الجديدة للرئيس چيوڤاني موسينيجو Giovanni Mocenigo، ولم يشعر الشعب معه بالأمان الكافي، خاصَّةً أنَّه حديث الخبرة بإدارة جمهوريَّةٍ واسعة النطاق كالبندقيَّة.
هذه الضغوط أفقدت البندقية إمكاناتها وهيبتها، ولم يكن هذا وليد هذه الشهور فقط؛ بل إنَّ البندقية في خسائر دائمة منذ بدأت حربها مع الدولة العثمانيَّة في (867هـ= 1463م)؛ أي خمسة عشر عامًا متواصلة من الانتكاسات، ولم تُحقِّق فوزًا واحدًا يُثلج الصدور في كلِّ المعارك، وزادت وتيرة الهزائم في العام الأخير بشكلٍ كبيرٍ ممَّا وضعها في حرجٍ لم تتعرَّض له من قبل.
يقول المؤرِّخ الألباني أليكس بودا تعليقًا على الحرب العثمانيَّة البندقية الكبيرة: «أرادت البندقية أن تُنهي هذه الحرب الطويلة، التي لم تَجْنِ من وراءها إلَّا الخسائر منذ بدأت عام (867هـ= 1463م)»[76].
ويقول المؤرِّخ الألماني بابينجر: «أرادت البندقية أن تضع نهايةً لهذه الحرب الكارثيَّة (Disastrous war) مع السلطان الفاتح بأيِّ ثمن»[77]!.
ويقول المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون: «سعت البندقية لإنهاء الحرب مع الدولة العثمانيَّة؛ حيث كانت تفقد الكثير جدًّا، وتُحصِّل القليل جدًّا، من وراء هذه الحرب»[78].
ويقول المؤرِّخ الإنجليزي مايكل أنجولد Michael Angold: «إنَّ الحرب الكبيرة بين الدولة العثمانيَّة والبندقية أدَّت إلى تغييرٍ مؤثِّرٍ للغاية في موازين القوى في أوروبا لصالح الدولة العثمانيَّة، وعلى حساب البندقية»[79].
هذه هي آثار الحرب على البندقية!
لقد وصلت البندقية إلى مرحلةٍ من الإنهاك تجعلها مستعدَّةً لدفع أيِّ ثمنٍ لتجنُّب مواجهةٍ جديدةٍ مع الدولة العثمانيَّة، وهذا أثرٌ كبيرٌ يستحقُّ ما بُذِل من تضحيَّاتٍ عثمانيَّةٍ حتى يصلوا إلى هذه النتيجة.
ثالثًا: لم تكن الرسالة القويَّة التي وجَّهها العثمانيُّون بهذه الحملة الواسعة بشكلٍ خاص، وبهذه الحرب الطويلة بشكلٍ عامٍّ، خاصَّةً بالبندقيَّة فقط؛ بل كانت موجَّهةً كذلك لكلِّ القوى الأوروبِّيَّة الموجودة آنذاك، وخاصَّةً مملكة المجر، وإمبراطوريَّة النمسا، ومملكة بولندا، ولم تكن تحرُّكات الجيش العثماني في كرواتيا، وسلوڤينيا، وإيطاليا، والنمسا، تحمل إلَّا معنًى واحدًا لكلِّ هذه الدول؛ وهو أنَّ الدولة العثمانيَّة لا تَرْهَبُ أحدًا في أوروبا كلِّها، وأنَّها على استعدادٍ لاستكمال مسيرة فتوحاتها في أيِّ بقعةٍ من بقاع أوروبا إذا ما راودت أيُّ قوَّةٍ نفسها على إثارة العثمانيِّين بأيِّ صورةٍ من الصور.
رابعًا: لم تكن هذه الحملة الكبيرة التي حقَّقت نتائج عظيمة للدولة العثمانيَّة بغير خسائر كبيرة للمسلمين؛ فالجيش العثماني فقد الكثير من جنوده، ويكفي أنَّ المؤرِّخ التركي طورسون اعتبر أنَّ الدماء التي أُريقت في هذه الحملة لم يُرَ مثلها في التاريخ[80]! مع أنَّ المؤرِّخ رأى معارك كبيرة مرَّت قبل ذلك في حياة الفاتح؛ كفتح القسطنطينية، وحروب البغدان، والإفلاق، والمعارك المتكرِّرة مع البندقية في نيجروبونتي والمورة، والصدامات الكبيرة مع مملكة الآق قوينلو، فضلًا عن المعارك التاريخيَّة الكبيرة في تاريخ الدولة العثمانيَّة قبل الفاتح. هذا يُعطينا فكرةً عن مدى الخسائر الجسيمة، والتضحيَّات الكثيرة التي حدثت في هذه الحملة الجبَّارة، وكان عزاء الدولة العثمانيَّة والفاتح في قول الله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء: 104]؛ فخسائر البندقية كانت أضعاف خسائر العثمانيِّين، وهذا ما يجعل النظرة متوازنة، والنتيجة مُرْضِيَة.
هذه هي الحملة الهمايونيَّة الخامسة والعشرين للفاتح رحمه الله..
هذه هي الحملة التي استمرَّت خمسة أشهر، وكانت عمليَّاتها في ألبانيا، وجمهوريَّة الجبل الأسود، بالإضافة إلى غارات متواصلة في إيطاليا، والنمسا، وسلوڤينيا، وكرواتيا..
وعاد الفاتح رحمه الله إلى إسطنبول في آخر الخريف[81]؛ يعني في نوفمبر تقريبًا، ولم يَكَدْ يستريح هو وجيشه حتى جاءته الأخبار أنَّ البندقية تُريد أن تعقد سلامًا وفق الشروط التي يرضاها! فكانت أعظم هديَّةٍ ربَّانيَّةٍ لهذه الجهود المضنية التي بُذِلَت في الفترة السابقة![82].
[1] Hosaflook David Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478 [Book]. - Albania : Onufri Publishing House, 2012
[2] Hosaflook, 2012, p. 69.
[3] Hosaflook, 2012, pp. 19-20.
[4] Hosaflook, 2012, p. 221.
[5] Evans Arthur Ancient Illyria: An Archaeological Exploration [Book]. - [s.l.] : I.B.Tauris, 2006, p. 83.
[6] Hahn Johann Georg von Albanesische Studien [Book]. - [s.l.] : Jena, F. Mauko, 1854, pp. 94-96.
[7] Hosaflook, 2012, p. 217.
[8] Hosaflook, 2012, p. 62.
[9] Hosaflook, 2012, p. xxx.
[10] Kamsi Vili Kështjella e Shkodrës dhe Restaurimi i Saj [Book Section] // Monumentet / book auth. Strazimiri Gani. - [s.l.] : Tiranë: Ministria e Arsimit dhe e Kulturës, 1971, p. 170.
[11] Hosaflook, 2012, p. 25.
[12] Hosaflook, 2012, p. 20.
[13] Hosaflook, 2012, p. 24.
[14] Anamali Skënder, Prifti Kristaq and RSH) Instituti i Historisë (Akademia e Shkencave e Historia e popullit shqiptar në katër vëllime (in Albanian) [Book]. - [s.l.] : Botimet Toena, et al., 2002, vol. 1, pp. 470-471.
[15] Hosaflook, 2012, p. 73.
[16] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press,, 1978, p. 363.
[17] Hosaflook, 2012, p. 252.
[18] Hosaflook, 2012, p. 85.
[19] Hammer Joseph Von Geschichte des osmanischen Reiches, Grossentheils aus bisher unbenützten, Handschriften und Archiven (in germany) [Book]. - [s.l.] : Pest: C.A. Hartlenben’s Verlage, 1828, vol. 2, p. 160.
[20] Hosaflook, 2012, p. 21.
[21] Hosaflook, 2012, p. 215.
[22] Hosaflook, 2012, p. 224.
[23] Hosaflook, 2012, p. 206.
[24] Hosaflook, 2012, p. 102.
[25] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/168.
[26] Hosaflook, 2012, p. 77.
[27] Hammer, 1828, vol. 2, pp. 565-566.
[28] Hosaflook, 2012, p. 22.
[29] Babinger, 1978, p. 364.
[30] أوزتونا، 1988م صفحة 1/168.
[31] Hosaflook, 2012, p. 21.
[32] Hosaflook, 2012, p. 215.
[33] Hosaflook, 2012, p. 22.
[34] Hosaflook, 2012, p. 121.
[35] Hosaflook, 2012, p. 22.
[36] Hosaflook, 2012, p. 224.
[37] Babinger, 1978, p. 364.
[38] Hosaflook, 2012, p. 225.
[39] Babinger, 1978, p. 364.
[40] Hosaflook, 2012, p. 225.
[41] Babinger, 1978, p. 364.
[42] Hosaflook, 2012, p. 22.
[43] Hosaflook, 2012, p. 225.
[44] Hosaflook, 2012, p. 22.
[45] Hosaflook, 2012, p. 133.
[46] Hosaflook, 2012, p. 232.
[47] Babinger, 1978, p. 364.
[48] Imber Colin The Ottoman Empire 1300-1650 The Structure of Power [Book]. - New York, USA : PALGRAVE MACMILLAN, 2009, p. 32.
[49] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 144.
[50] Babinger, 1978, p. 364.
[51] Hosaflook, 2012, p. 225.
[52] Babinger, 1978, p. 366.
[53] Babinger, 1978, pp. 366-367.
[54] Hosaflook, 2012, p. 22.
[55] Ukrainian Congress Committee of America, 1991, vol. 47, p. 72.
[56] Samardžić Radovan [et al.] Историја српског народа: шест књига: Доба борби за очување и обнову државе (1371-1537) [History of the Serbian People: The Age of Struggle for Preservation and Restoration of the State 1371-1537] Istorija srpskog naroda (in Serbian) [Book]. - Belgrade : Srpska književna zadruga., 1982, p. 410.
[57] United Nations. Economic Commission for Europe, 2007, pp. 166-167
[58] Hosaflook, 2012, p. 217.
[59] Hosaflook, 2012, p. 225.
[60] Samardžić, et al., 1982, p. 419.
[61] Hosaflook, 2012, pp. 225-226.
[62] Hosaflook, 2012, p. 217.
[63] Hosaflook, 2012, p. 256.
[64] Hosaflook, 2012, p. 226.
[65] Bešić Zarij M ИСТОРИЈА ЦРНЕ ГОРЕ [History of Montenegro] Istorija Črne Gore [Book]. - [s.l.] : Pedakt︠s︡ija za istoriju t︠s︡rne gore, 1970, p. 315.
[66] Samardžić, et al., 1982, p. 410.
[67] Hosaflook, 2012, p. 217.
[68] Hosaflook, 2012, p. 23.
[69] Hosaflook, 2012, pp. 233-234.
[70] Babinger, 1978, p. 366.
[71] Hosaflook, 2012, p. 220.
[72] Pulaha Selami [Albanian-Turkish Wars in the Fifteenth Century: Ottoman Sources] Lufta shqiptaro-turke në shekullin XV. Burime Osmane [Book]. - [s.l.] : Tirana: Universiteti Shtetëror, 1968, p. 376.
[73] Hosaflook, 2012, p. 24.
[74] Babinger, 1978, p. 366.
[75] Babinger, 1978, p. 367.
[76] Hosaflook, 2012, p. 23.
[77] Babinger, 1978, p. 368.
[78] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 327.
[79] Angold Michael The Fall of Constantinople to the Ottomans: Context and Consequences [Book]. - New York, USA : Routledge, 2014, p. 99.
[80] Pulaha, 1968, p. 107.
[81] Babinger, 1978, p. 367.
[82] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 640- 664.
التعليقات
إرسال تعليقك